تعدَّدت آراء المؤرِّخين حول الأسباب التي تسبَّبت في نشوب حرب القرم بين روسيا والدولة العثمانية، ولكن من أهمِّ هذه الأسباب الخلافات الدينيَّة بين روسيا وفرنسا حول الأماكن المقدَّسة في فلسطين؛ فقد كان لفرنسا حقٌّ تقليديٌّ يعود تاريخه إلى زمن الحروب الصليبية في حماية الكنائس في بيت المقدس، ولمـَّا ضمَّت الدولةُ العثمانية البلادَ العربيَّة خوَّلت لفرنسا هذه الامتيازات في سنة (1153ه= 1740م)، وبموجب هذه الامتيازات أعطت فرنسا للنصارى الكاثوليك حقوق امتلاك هذه الكنائس والإشراف عليها.
وعندما انشغلت فرنسا بالثورة الفرنسية والحروب في أوروبا استطاعت روسيا سلب هذه الامتيازات وإعطائها لرعياها الأرثوذكس، غير أنَّ فرنسا لمـَّا انتهت من حروبها، وارتقى عرشها الإمبراطور نابليون بونابرت أرسل إلى السلطان العثماني عبد المجيد الأول مذكرة يطلب فيها استعادة امتيازات فرنسا القديمة، ولما وافق السلطان العثماني على طلب الإمبراطور الفرنسي احتجت روسيا وهددت بالحرب.
اقرأ أيضًا/|شمس مصر|.. مصاطب أفراد الأسرة المالكة
أحداث ما قبل حرب القرم: اتَّخذت روسيا من هذا الخلاف ذريعة، ووجدت أنَّ الفرصة قد أصبحت ملائمةً في شنِّ الحرب على الدولة العثمانية، فأرسلت الأمير منشيكوف إلى إسطنبول بمهمَّةٍ ظاهرها تسوية مسألة الأراضي المقدَّسة، ولكنَّ الهدف الحقيقي لمهمَّته توقيع معاهدة تكفل لروسيا تدخُّلها في الشئون العثمانية الداخلية، وهذا إذا ما رُفِضَ من قِبَل السلطان العثماني سيكون مبرِّرًا لإعلان الحرب على الدولة العثمانية.
وقبل وصول الأمير منشيكوف إلى إسطنبول حاولت روسيا الاستعانة بإنجلترا وفرنسا فلم يُوافقا، ولمـَّا وصل الأمير منشيكوف إلى إسطنبول رُفِض طلبه بالفعل وفشلت مهمَّته، فغادر إسنطبول في (12 شعبان 1269ه= 21 مايو1853م).
اقرأ أيضًا/|شمس مصر|.. رب الأرباب زيوس
نتائج حرب القرم:-
خرجت الدولة العثمانية من حرب القرم وهي في حال ارتباكٍ على الرغم من أنَّ الحرب كانت لصالحها كما يبدو للوهلة الأولى، إلَّا أنَّ الحرب انتهت لصالح الدول الأوروبية التي راحت تُدبِّر المؤامرات لإضعاف الدولة العثمانية حتى تبقى تحت طوعها.
وفي الوقت الذي كانت فيه الدولة العثمانية منهمكة في إصلاح شئونها الداخليَّة أخذت القوميَّات التابعة لحكمها تنتفض وتُثير المتاعب في وجهها بتحريضٍ من الدول الأوروبِّيَّة بهدف تحقيق انفصالها، على الرغم من أنَّ إنجلترا وفرنسا والنمسا عقدت معاهدةً في (9 شعبان 1272ه= 15 أبريل 1856م) تعهَّدت فيها باحترام استقلال الدولة العثمانيَّة وضمان سلامة وتماسك ممتلكاتها، لكن ثبت بعد ذلك أنَّ عقد المعاهدات شيءٌ وتطبيقها عمليًّا شيءٌ آخر.
فلم تجنِ الدولة العثمانية من معاهدة باريس سوى المشكلات من قِبَل الدول الأوروبِّيَّة التي عملت على تقطيع أوصالها، وضمِّ أجزاءٍ من ممتلكاتها إليها، بحيث أصبحت عبارة "المحافظة على استقلال الدولة العثمانية وتماسك ممتلكاتها" غير ذات قيمة.
اقرأ أيضًا/|شمس مصر|.. العصر الحجري القديم الأسفل بالمغرب