كيف لك أن تسكن مدينة لا تعرف عنها شئ ؟!كيف تجهل موطنك وأصلك ؛ فحينما تفقد الامم هويتها تتوه الحضارة و يعجز لسان التاريخ عن الحديث عنها،فكل ما يدور حولنا من أثر له "حكاية" دُفنت فى قبر الزمان و تحيا بنا نحن ،فنتحدث بلسان الحجر و نحكى ما لا يستطيع نطقه و كأننا قلماً يدون التاريخ و يسطره من جديد فتستنير العقول و يحيا التاريخ دون موت و كأنه يُبعث للخلود.
فكم من مدينة تسكنها الف حكاية و حكاية ! ولكن تبقى هرموبوليس أسمى حكاية لمدينة من الحضارة المصرية القديمة،فيقف أمامها العقل فى دهشة ،فهى ذات طابع فلسفي وديني عميق ممزوج بأعظم حضارات العالم القديم الحضارة المصرية والاغريقية و كأنها شروق لبحراً من العلم وهذا ليس من العجيب عليها فهي عرش المعبود جحوتي رب الحكمة والمعرفة والكتابة في بالمثولوجية المصرية القديمة.
________________________
حيث ربطت هرموبوليس بين أجزاء مصر وذلك لموقعها فهي تاج "مصر الوسطى" التي عرفا بأسم" خمنو" اي الثامون نظراً لمذهب الخلق الخاص بها و الذي أرجع خلق الكون إلى 8 إلهة "فقد قام على مبدأ" الهرمونية" التزاوج بين كل شيء( الماء ،الهواء ،النار ،التراب.....)
أشبه بقول الله تعالى " وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا".
حملت رقم 15 بين أقاليم مصر وهى تعرف الآن بأسم الاشمونين وهو مركز تابع لمحافظة المنيا.
وكان رمز الاقليم لغزًا يوضح لنا العمق الفلسفى حيث يعبر عنه "أنثى الأرنب" والتى نطقت بالهيروغليفية
"Wnwt"
والتى ترمز إلى الكونية و بداية الخلق فتعد رمزا للتجدد و البعث من جديد .
وجاءت تسمية" هرموبوليس "مع العصر الرومانى نسبة لهرمس والتى تعنى تحوت فى الإغريقية .
______________________
أهم ما يميز هرموبوليس تأثيرها الدائم في كل عصور الحضارة المصرية ؛فموقعها جعل منها مدينة ثرية ثقافيًا وحضاريًا واقتصاديًا.
_ أرضها خصبة فكان دورها فى الزراعة ليس هين كما أن طبيعتها جعلت منها مركز هامًا للرخام وغيره من المواد الحجرية.
احاطها التاريخ من جميع الجهات :-
1]فهى بالقرب من مقابر بني حسن والتي ترجع الى عصر الدوله الوسطى وهى مقابر ذات طراز رفيع المستوى فى العمارة تضم ما يقرب من 39مقبرة منهم 4 مقابر اكتشفت كاملة.
2]وجدت بها آثار ترجع لعهد الملك "أمنحتب الثالث" حيث عثر على تماثيل ضخمة لقرد البابون الذى يرمز للمعبود" تحوت" أضافة إلى أطلال معبد للمعبود جحوتى و آثار ترجع لعهد رمسيس الثانى و مرنبتاح .
وهي على مقربة كبيرة من" تل العمارنة "مدينة أخناتون وبذلك الدليل ننفى كل ما قيل حول أن "تل العمارنة" منطقه لا يعرفها الا أخناتون فقط بل كانت معروفة قبل عهده .
3] أضافه إلى العثور على لوحات الحدود بتونا الجبل والتي ترجع لعهد اخناتون ايضا فتقص علينا أهم علاقات مصر الخارجية ببلاد الشرق الادنى في ذلك الوقت و مرورًا بالعصور وصول الى الحكم الفارسي لمصر ؛عُثر بها على آثار ترجع لعصر الاسرة 27 .
4] وهي مدينة غرق في حبها الإغريق وأنجذبوا إليها حتى قبل قدوم الاسكندر الأكبر لمصر و أستقروا بها وهذا أن دل فيدل على أن مصر كانت و لازالت منفتحة على بلدان العالم تحتضنهم بثقافتهم المختلفة و تزينهم برونق حضارتنا .
أصبحت هرموبوليس نسخة مصغرة من المدن الإغريقية؛ حيث عثر بالغرب منها و تحديدًا بتونا الجبل . على مقبرة بيتوزيرس وهو كاهن اكبر للمعبود جحوتى و يرجع تأريخها ل 300ق.م والتي كانت مقبرته غنية بالأفكار الفلسفية التي صدرت وترجمت للحضارات الاخرى . و قد مر على اكتشافها أكثر من مائة عام وتحديدا 1919م
5]كما عُثر على آطلال معبد لجحوتى يرجع لعهد "فيليب ارهيديوس" وهو اخ غير شقيق للاسكندر الأكبر . و جدت أيضاً بقايا أسواق رومانية و أطلال كنيسة على الطراز البازلكى . كل ذلك يجعلنا نندهش بها فهى حديقة ممتلئة بمقتطفات العصور .
____________________
و يبقى سحر المدينة كامن فى عظمة معبودها "جحوتى" .
فمدينة هرموبوليس هي حضارة داخل حضارة هي نبع العلم والمعرفة فى مصر القديمة ،تركت أثراً كبيراً في عقول البشر قديماً وحتى الان ، حيث ارتكزت على عدة أفكار رئيسية متعلقة بالفكر والاساطير من أشهر نصوصها" المخطوطات الهرمسية" التي وجدت بها ومن ثم أنتقلت الى الاسكندرية ثم الى بلاد اليونان و مدن الشرق، كتبت تلك النصوص باليونانية والقبطية وقد تضمنت كونية الوجود و فلسفة نشأته ،تشكل الذات والصعود والترقي وإعادة البعث .
قرأت نصاً يقول
"يا تحوت ليتك تأخذنى لمدينتك ،مدينة الصدق"
فهى رمزاً للحق و نموذجاً حي لربط الشرق بالغرب في العصر اليوناني الروماني ذلك الأمل الذى كان يحيا من أجله الإسكندر الأكبر أن يجعل بحر العلم و الثقافة ممرًا لربط الحضارات و ليس للفصل بينهم .
فستبقى هرموبوليس نموذجاً يحاكى الماضي والحاضر .
انتظروا حكاية أخرى عن هرموبوليس الجديدة قريباً .
__________________
