سبق مبادرة باتيلي في مجلس الأمن لقاء للمجموعة الدولية للاتصال بشأن ليبيا (2+2+P3) والتي تضم كلاً من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا ومصر وتركيا، كما شاركت كل من الامارات وقطر، بالإضافة إلي المبعوث الأممي باتيلي، في واشنطن، لمناقشة تطورات الملف الليبي وتحديداً المستجدات المتعلقة بإجراء الانتخابات ومع ذلك، فإن ما تسرب عن اللقاء لا يشير إلي توافق جرى فيه علي خطة عمل محددة، أو حتى طرح مبادرة باتيلي للنقاش وبالتالى طرحت المبادرة بشكل مفاجىء ومن دون تنسيق علي مستوى مجموعة الاتصال.
كذلك فإن النقاش الذي جرى على طاولة مجلس الأمن يؤكد علي فرضية التباين، فواشنطن علي سبيل المثال أيدت المبادرة مباشرة، وعلي الأرجح كانت تعرف تفاصيلها قبل عرضها، بينما عارضتها موسكو، وهو سياق كان متوقعاً، من زاوية عدم التوافق الروسي-الأمريكي التقليدي في هذا الملف، ومع ذلك عرض المندوب الروسي وجهة نظر تتعلق بأن الاستعجال في العملية الانتخابية بالإضافة إلي التلميح لهندسة العملية بدون توافق محلي واستبعاد بعض الأطراف كالنظام السابق لا يصب في صالح العملية السياسية وفي حين تحتاج خطة باتيلي إلي قرار من مجلس الأمن فمن الواضح أن روسيا ستضع "فيتو" علي صدوره إن لم تضمن تحقق شروطها في الخطة.
ويؤخذ في الاعتبار أيضاً أنه لم يحدث من قبل في هذا الملف أن عرض مبعوث أممي خطة عمل لم يتم الترويج لها دولياً كما يؤخذ في الاعتبار مواقف القوى الإقليمية المنخرطة في هذا الملف وتأثيرها فيه فعلى سبيل المثال رفضت مصر المبادرة بشكل صريح ويشير بيان للخارجية المصرية إلي أن المبادرة تقفز علي المؤسسات الشرعية الليبية ويضاف إلي الجهود المصرية التي بذلت ولا تزال في هذا السياق التقارب المصري-التركي الذي سينعكس بشكل إيجابي في الملف.
من المتصور أن دفع العملية السياسية الليبية يحتاج إلى مبادرة لإنقاذها، لكن إنقاذ أي عملية سياسية يتطلب دوراً أكثر فاعلية للوساطة، وحواراً للتقريب ما بين الأطراف، بينما يبدو أن باتيلي كان يجري الحوارات مع مختلف الأطراف في إطار الاستماع فقط، ليقرر هو بنفسه لاحقاً ما الذي يتعين عمله بدون الرجوع لتلك الأطراف، وهو ما يؤكد فرضية "الوصاية"، والصيغة التي استخدمها باتيلي في الطرح تقطع بهذا السياق، حيث قال: "قررت إطلاق مبادرة تهدف إلي التمكين من إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية خلال عام 2023"، وبالتالى القرار هنا يعود له بشكل منفرد.
ومن غير الواضح ما هي مبررات الاستناد للمادة 64 من الاتفاق السياسي، حيث تشير تلك المادة إلي أنه "للحوار السياسي الليبي، بعد إقرار هذا الاتفاق، أن ينعقد استثناءً بناءً علي طلب من أي طرف من أطراف الاتفاق، للنظر فيما يعتقد أنه خرق جسيم لأحد بنوده". فالمادة هنا ووفق نص الاتفاق السياسي المنشور علي موقع البعثة الأممية تشير أولاً إلي "الانعقاد الاستثنائي" للجنة الحوار، وليس تشكيل لجنة فوقية تقفز على كافة المؤسسات، كذلك فإن المادة تشير إلي أن يكون ذلك بطلب من الأطراف وليس تخويل البعثة الأممية بهذا الدور.
بالإضافة إلي ما سبق، من المتصور أن وضع خطة بهذا الشكل في المدي الزمني خلال عام 2023 أي بحدود 9 أشهر هي مسألة غير ممكنة وغير واقعية، فالعملية الانتخابية وحدها تحتاج إلى 6 أشهر للإعداد لها، بالإضافة إلي الجدل الذي سيحيط عملية تشكيل اللجنة، وإطارها القانوني ومن سيقر الإطار القانوني لها، وكيف ستترجم مخرجات اللجنة من دون العودة لأي جهة وطنية ليبية، فضلاً عن صعوبة تمريرها كقرار أممي.
إذن، يمكن القول إن المسألة تتجاوز الحكم المبكر علي المبادرة بالفشل، إلي حد ما ستفرضه تداعياتها من أزمات، لا سيما فجوة الثقة التي ما بين المبعوث الأممي والقوى الليبية العديدة التي ترى فيها إما مصادرة لدورها أو مصادرة لمصالحها، فضلاً عن غموضها في التعاطي مع إشكالية السلطة التنفيذية، وربما يبدو أن عملية تشكيل لجنة لا تهدف فقط إلي القفز فوق المؤسسات الشرعية، بل ستقفز فوق مسألة الانقسام السياسي والحكومات والمجلس الرئاسي. وبالتالي تشكل لجنة سيادية غير قابلة لمراجعة قراراتها أو الطعن عليها.
ومع ذلك، قد يكون من تداعيات المبادرة لفت انتباه النخبة الليبية إلي تحديات اللحظة الراهنة، وأن هناك قوى محركة ربما تحاول فرض وصاية سياسية علي الليبين، وبالتالي قد يدفع الفرقاء إلي التسريع من طي صفحة الخلافات، ومحاولة التوصل إلي حل للخروج من دائرة الأزمة. وهناك ما يمكن البناء عليه في هذا السياق، بقطع الأمتار الأخيرة في مشكلة القاعدة الدستورية، لفرض خطة عمل ليبية وليس خطة عمل دولية أو أممية لا تراعي الاعتبارات والاستحقاقات الليبية المطلوبة.