تخيل معي أن أحدا يشرح لك تجربة علمية لتقوم أنت بعد شرحه بتنفيذها كما شرحها هو لك، وهو الطبيعي أن تفعل ما قد قاله لك كي تحصل على نفس النتيجة المرجوة، فتسمعه أنت بكل آذان صاغية وبكل جوارحك، لتغتنم وقت الشرح لتستفيد منه بأعلى نسبة ممكنة، وليعينك تركيزك هذا على أن تقوم بتطبيق التجربة بشكل "بروفيشينال"، ثم يأتي الوقت المنشود وعندما أنت واقف تسترجع ما شرحه من خطوات، فتطبق ما قاله إلا شيئا مثلا فيعود هو يذكرك به مرة ثانية، الأمر الذي يستغرق من الوقت المزيد والمزيد، ويُبذل في سبيله الكثير من الجهد سواء من المعلم أو المتعلم، وذلك داخل المبنى الجامعي، أما عندما تتخرج وتقوم أنت بتطبيق ذلك أمام أحد الخريجين السابقين الذين قد تعودوا وسبق أن مسحوا كل ما قد تعلمونه من خطوات أكاديمية، تكون أنت مدعاة للسخرية والضحك، ويقولون بلسان الرجل العجوز ذي الخبرة، "انسى اللي اتعلمتو في الجامعة"، فتشعر أنك ارتكبت أكبر خطأ، وأجرمت جرما كبيرا، وهو أنك قمت بتنفيذ ما قد تعلمته.
سنرى ذلك كثيرا في كلياتنا العملية بأنواعها، فأنت تهلك نفسك في مذاكرة مقرر طول العام، وإذا أخطأت تحاسب بالنقص في الدرجات، وقد تكون الدرجة أو النصف الدرجة التي لم تحصل عليها في التجربة العملية هي التي ربما تجعلك تعيد العام، ثم تأتي بعد ذلك لتجد أن ما تعلمته شيء وما ستمارسه طول حياتك بعد التخرج شيء آخر.
اقرأ أيضاً/ أرجو جوابا بنعم.. وجوابا بلا
في كل وقت كان معلمي يتكلم عن الدول النامية، كان يذكر مصر أول دولة على أنها أقرب مثال، وكنتُ أسمع لكن لم أسأل نفسي إلا بعدها: لماذا مصر دولة نامية؟ فلم أجرؤ على سؤاله مرة حيث كان كلامه يثير غيرةً في داخلي تجاه الدول المتقدمة وخاصة تلك التي كان يذكرها كمثال، فمصر تتمتع بموقع استراتيجي يجعلها محط أنظار العالم، وجوها جميل جذاب، وصاحبة حضارة عريقة، ومنها علماء أبهروا العالم ونفعوه بعلمهم. ومعنى نامية أنها لم تبلغ عرش التقدُّم والتطوُّر بعد، فهي سائرة في طريق النمو... إذًا فهو أمر لا يدعو للخجل، إذا كنا فعلا نتطلع إلى التطوُّر، فعسانا أن نبلغه.
اقرأ أيضاً/ أولاد حارتنا... قضية ظلت عائمة
حديثي عن هذا الموضوع يشبه الذي يحدّث الناس وبينه وبينهم حاجز مانع الصوت أن يصل إليهم، فلن يسمعوه أبدًا، وإن يسمعوه، فالأمر أصعب من أن يكون حله الاستماع، وبطبيعة الأمر أي مشكلة تكون خطوة حلها الأولى هي تحديد المشكلة والأسباب التي أدت إليها، وهذه المشكلة ليست بالسهلة أو الهينة إطلاقًا، فلنتأمل معا... هل الخطأ في النظام الجامعي الذي يقرر أشياء لا علاقة لها بالواقع، أم أن الأيدي العاملة هي التي تتناسى ما درسته وتعزُف عنه سعيا وراء راحة الجسد، فكلمة "المفروض أن يحدث" ولكنه لم يحدث، لن تسمعها إلا في دولة نامية، وهي الكلمة التي تشعرك بالغثيان، إن لم تتقيأ بالفعل.
اقرأ أيضاً/ قصيدة مريد وفلسطين... في رثاء الشاعر مريد البرغوثي
هناك إهمال آخر في مجال غير ذلك يؤدي إلى دولة نامية، ويثبط نموها، وإن الجواب على السؤال "لماذا تصبح دولة ما نامية؟" يحتاج إلي إجابة طويلة، و كل إجابة تحتاج إلى تحليل عميق، ربما عدم الفجوة بين ما يدرس في المدارس والجامعات وبين سوق العمل هو جزء منها من وجهة نظري.
