إذا كنت من الذين يحبون القراءة، وأمسكت كتابا ذات يوم في وسيلة مواصلات أو أي مكان عام، سيعني لك هذا الكلام كثيرا، وإن لم يكن، فاستعد لأنك ستكون في حالة الدفاع عن نفسك وعن أهمية القراءة في حد ذاتها، فكثيرا ما يتعرض القارئ في الأماكن العامة لتساؤلات تطفلية من قبيل، لماذا تضيع وقتك في قراءة الروايات؟ وكيف تجد ضالتك في القراءة؟ قاطعك بينما أنت تقرأ بكل هذه الأسئلة، وكثيرا من لا يجد كلاما ليرد عليه، إذًا لماذا نقرأ؟ ولماذا نجلس ساعات ربما والكتاب بين أيدينا؟
إن هذه المبررات لن تعني شيئا لمن يكره القراءة ربما، وربما يقتنع بها أحد من كارهي القراءة بشكل عام، وذلك يتوقف على درجة تأثره بما سوف أقوله هنا... تباغتني الآن نفسي بسؤال يطرح نفسه بشدة، كيف تكتب مقالا تستهدف فيه كارهي القراءة وتنتظر منهم أن يقرءوه؟! لا بأس... فلربما يصادفه أحدهما فيتغلب فضوله على كرهه... ويقرأ. ولكن على صعيد آخر قد يكون مبررا رائعا لمحبي القراءة أمثالي، يتخذون منه إجابة بسيطة لمن يتطفلوا على هوايتهم هذه المفضلة.. وعلّهم يقتنعون أو - على الأقل - لا يُسمعونا أسئلتهم الباردة هذه.
اقرأ أيضًا: أولاد حارتنا... قضية ظلت عائمة
سُئل ذات مرة الكاتب الألماني زوسكيند عن الكتاب الذي غير حياته، ويرد زوسكيند بعدها في مقال طويل عريض بدأه بسؤال غريب هو، ماذا كان السؤال؟... ثم يتذكر السؤال فيما بعد، وقرر أن يجاوب عليه بالذهاب إلى مكتبته، والتقط كتابا وأخذ يقرأ فيه ويندهش ببراعة الكلمات ومعانيها وسحرها، ولا يزعجه الخطوط المشدودة تحت السطور، وتعجبه أكثر جملة ويقرر أن يكتب في أسفل الصفحة "جيد جدا" ويكتشف أنها مكتوبة بالفعل فمن الذي كتبها؟... لقد نسى زوسكيند أنه قد قرأ هذا الكتاب منذ زمن... وهو صاحب هذه الملاحظات الكثيرة وهو الذي انبهر واندهش عندما قرأه لأول مرة وكذلك في المرة الثانية، ألم يتذكر أبدا أنه قد قرأ هذا الكتاب رغم أنه من الطبيعي أن يكون عالقا بذهنه لطالما أعجبه كثيرا هكذا، ويقول في مقالته إنه لم يتذكر أي شيء من الكتب التي قرأها على مدار الثلاثين عاما التي قضاها بين كتب شكسبير وغيره من الكتاب.
من تجربة زوسكيند نرى أن مشكلة الفائدة من القراءة ليست هي المشكلة، فكتاب واحد قرأه مرة ونفعه نفعا كبيرا، وكل الكتب التي بين أرفف مكتبته نفعته لا شك، لكن الوقت الذي ينفقه في القراءة التي هي "قراءة في كتب مفيدة"، راح هدرا فلم يتبقَ في رأسه شيئا من المعلومات التي رأى أنها نافعة!...قضية أن القراءة في حد ذاتها مفيدة أم لا، وبالإضافة إلى قضية ذهاب ما قرأته هباءً منثورًا، وبعثرته في غياهب النسيان، حلّها زوسكيند في جملة بديعة رائعة، ورغم ذلك قال عنها زوسكيند إنها مجرد مواساة مشينة ونتنة لعليل مثل عليل الذاكرة أمثاله وقد سمّاها "فقدان الذاكرة الأدبية".
اقرأ أيضًا:من (أنا)؟... هل تعلم من تكون؟!
وما قاله زوسكيند هو "ربما كانت القراءة بالدرجة الأولي عملية تشرب، رغم أن الوعي غارق فيها كليا، إلا أنه يغرق بطريقة غير ملحوظة، بحيث لا تدرك العملية. إذًا فالقارئ المصاب بفقدان الذاكرة الأدبية يتغير بفعل المطالعة بالتأكيد، لكنه لا يلاحظ، لأن الجهات المختصة بالنقد في دماغه تتغير أثناء القراءة، وهي التي تستطيع أن تقول إنه تغير أم لا، وبالنسبة لشخص يكتب قد يكون هذا المرض نعمة، بل وتقريبا شرطا لابد منه، يحفظه من الهيبة التي تصيبه بالشلل تجاه كل عمل أدبي عظيم، ويمنحه علاقة غير معقدة أبدا مع الانتحال الذي لا يمكن نشوء شيء حقيقي في الكتابه بدونه".
اقرأ أيضًا:في بلاد "المفروض ليس واقعًا"