فترة ما بين السلطنتين
لا يُعرف الكثير عن حياة مُحمَّد الثاني في فترة ما بين سلطنتيه التي أمضى مُعظمها في مغنيسية، وجُلَّ ما يُعرف أنَّهُ لم يُشارك في حملة والده على المورة سنة 850هـ المُوافقة لِسنة 1446م، وأنَّهُ رُزق بِمولودٍ ذكرٍ سمَّاه بايزيد، من زوجته أمينة گُلبهار خاتون الأرناؤوطيَّة، سنة 851هـ المُوافقة لأواخر سنة 1447م،وقد قُدِّر لهذا الابن أن يكون السُلطان التالي على عرش الدولة العُثمانيَّة.
وفي سنة 1448م شارك مُحمَّد الثاني في أوَّل حملة عسكريَّة مع والده مُراد، الذي استصحبه لِقتال إسكندر بك العاصي، لكنَّ الحملة لم تُصب النجاح المأمول، بِسبب هُرُوب إسكندر بك واعتصامه في الجبال، ولم يتعقَّبه السُلطان مُراد ووليّ عهده بِسبب ما بلغه من عودة الاضطرابات مع بلاد المجر.
فقد أغار يُوحنَّا هونياد على بلاد الصرب انتقامًا من العُثمانيين لِيُعيد لِنفسه بعض ما فقد من الشرف في واقعة وارنة، فسار إليه السُلطان مُراد ومعهُ وليُّ عهده مُحمَّد، الذي جعلهُ على رأس العساكر الأناضوليَّة، وأنزلا بِهونياد هزيمةً مُدوِّيةً في معركةٍ جرت في سهل قوصوه (كوسوڤو)، وكانت تلك أوَّلُ وقعةٍ حربيَّةٍ يخوضها الشاهزاده الشاب، البالغ من العُمر نحو 16 ربيعًا.
وفي السنة التالية، تزوَّج مُحمَّد الثاني مُكرَّمة خاتون بنت سُليمان بك أمير ذي القدريَّة، بعد أن خطبها له والده لِأغراضٍ سياسيَّة.
خِلال هذه الفترة أيضًا، سمح مُحمَّد الثاني لِبعض البحَّارة العُثمانيين التابعين له بِالإغارة على سُفن البنادقة لِإلهائهم عن تقديم العون لِإسكندر بك، الذي كان دائم السعي لِكسب تأييدهم في صراعه مع السلطنة العُثمانيَّة.
وفي سنة 852هـ المُوافقة لِسنتيّ 1448 و1449م، ضرب الشاهزاده السكَّة بِاسمه على النمط السُلجُوقي، وفي شهر آب (أغسطس) أو أيلول (سپتمبر) 1449م تُوفيت والدته خديجة هُما خاتون.
وفي 2 ربيع الآخر 854هـ المُوافق فيه 14 أيَّار (مايو) 1450م، شارك مُحمَّد الثاني أباه السُلطان في حصار مدينة آقچة حصار في مُحاولةٍ لِإنهاء عصيان إسكندر بك.
دام الحصار العُثماني لِلمدينة المذكورة خمسة أشهر دون أن تسقط بِيد العُثمانيين، ولعلَّ سبب ذلك هو: موقع المدينة المُستحكم، إذ كانت تقع على تلَّةٍ مُرتفعة، وضعف الجُيُوش العُثمانيَّة التي أنهكتها الحُرُوب المُتواصلة، وقُرب حُلُول فصل الشتاء، كما وردت أنباء تُفيد باستعداد القُوَّات المجريَّة لِلقيام بِهُجُومٍ جديدٍ على الأراضي العُثمانيَّة.
لِذلك، عرض السُلطان مُراد الصُلح على إسكندر بك مُقابل الاعتراف به أميرًا على بلاد الأرناؤوط لِقاء جزيةٍ سنويَّةٍ يدفعها لِلدولة العُثمانيَّة.
لكنَّ إسكندر بك رفض عرض الصُلح، على الرُغم من أنَّهُ كان يُعاني من انفضاض زُعماء القبائل من حوله بِسبب سياسته المركزيَّة، كما لم ينجح في كسب تأييد البنادقة، فاضطرَّ مُراد الثاني أن يرفع الحصار في أواخر رمضان المُوافق لِأواخر تشرين الأوَّل (أكتوبر)، وعاد إلى أدرنة عاصمة ممالكه لِيُجهِّز جُيُوشًا جديدة كافية لِقمع هذا الثائر، لكنَّ الأجل كان لهُ بِالمرصاد.
اعتلاؤه العرش للمرة الثانية
تُوفي السُلطان مُراد الثاني بعد عودته من حملته على الأرناؤوط بِبضعة شُهُور، وكان قد كتب وصيَّةً إلى ولده وهو على فراش الموت، وجمع الوُزراء لِيكونوا شُهداء عليها، وأوصاهم بِحُسن الانقياد لِوليِّ عهده مُحمَّد، ومن أبرز ما ذُكر في الوصيَّة: تعيين خليل باشا الجندرلي وصيًّا ومُرشدًا لِلسُلطان الجديد، وأن يسعى الأخير لِفتح القُسطنطينيَّة، فإنَّ هذا الهدف هو أهم أساس ينبغي العمل على تحقيقه.
واستنادًا إلى المُمارسة سارية المفعول مُنذُ وفاة السُلطان مُحمَّد الأوَّل، أخفى الوُزراء خبر موت السُلطان مُراد عن الجيش بِفعل ما قد يُسببه الإعلان من أخطار انتقال السُلطة من عهدٍ إلى عهد.
لِذلك، جرى التكتُّم على هذا الأمر ما بين 12 و13 يومًا، وبِمُوجب رواية أُخرى 16 يومًا، إلى حين وُصُول السُلطان مُحمَّد من مغنيسية إلى أدرنة، وفي حالة السُلطان العتيد فإنَّ التكتُّم كان ضروريًّا، إذ شكَّل اعتلاؤه العرش حالةً خاصَّة، من واقع أنَّهُ لم يكن يتمتَّع بِشعبيَّةٍ كبيرةٍ في الوسط الإنكشاري بِخاصَّةٍ، وكان يُخشى أن يستغل البيزنطيُّون وفاة السُلطان السابق لِإطلاق سراح الشاهزاده أورخان بن مُحمَّد،حفيد الشاهزاده سُليمان چلبي ابن السُلطان بايزيد الأوَّل وشقيق السُلطان مُحمَّد الأوَّل. ومن المعروف أنَّ أورخان المذكور كان مُطالبًا بِالعرش العُثماني بعد وفاة أبيه وجدِّه، وكان بإمكانه الادعاء بِأحقيَّته فيه بعد وفاة السُلطان مُراد على اعتبار أنَّه الأكبر سنًا بين آل عُثمان، فكان العُثمانيون يدفعون مبلغًا سنويًا لِلرُّوم في سبيل إبقائهم الشاهزاده أورخان محجوزًا لديهم في القُسطنطينيَّة، كما خصَّصوا لهُ راتبًا يعتاش منه، ولم يكن بالإمكان ضمان وفاء الرُّوم بِعهدهم وإبقاء أورخان في عاصمتهم بعد تبدُّل الظُروف السياسيَّة الناجمة عن وفاة مُراد الثاني، لِذلك كان التكتُّم على وفاته وعدم كشفها لِلبيزنطيين أمرًا ضروريًّا.
م
أُديرت شُؤون الدولة، التي بقيت خالية من أي سُلطانٍ بُعيد وفاة مُراد إلى حين وُصُول مُحمَّد الثاني بعد بضعة عشر يومًا، من لدُنَّ الصدر الأعظم خليل باشا الجندرلي، الذي أظهر أنَّ السُلطان حيٌّ يُرزق، حيثُ أدار الأُمُور باسمه، مُنتظرًا وُصُول السُلطان الجديد.
ويُذكر أنَّ الأخير لمَّا وصله نبأ الوفاة، خرج من مغنيسية على الفور، ووصل إلى گليپولي خِلال يومين؛ ومنها توجَّه، بِالسُرعة نفسها، إلى أدرنة، كما تذكر الروايات.
إلَّا أنَّ النبأ لمَّا خرج من أدرنة ووصل إلى مغنيسية، فقد مرَّ عليه عدَّة أيَّام أيضًا؛ ولِذلك، فإنَّ المُؤكَّد، أنَّ الفاصل بين وفاة مُراد الثاني وجُلُوس ابنه مُحمَّد هو بين 7 و8 أيَّام.
إلَّا أنَّهُ بِالنظر إلى عدم إمكانيَّة توثيق الرواية التي تُفيد بِسُرعة وُصُول مُحمَّد الثاني إلى أدرنة، فإنَّ تاريخ جُلُوسه المُعتمد في المصادر الأكاديميَّة هو التاريخ الذي تقبله وتنص عليه المصادر العُثمانيَّة، وهو يوم الخميس 16 مُحرَّم 855هـ المُوافق فيه 18 شُباط (فبراير) 1451م.
وبِما أنَّ أقوى الروايات تنص على وفاة السُلطان مُراد يوم الأربعاء 1 مُحرَّم المُوافق فيه 3 شُباط (فبراير)، فإنَّ مُحمَّد الثاني يكون قد جلس على سُدَّة الحُكم بعد وفاة والده بِخمسة عشر يومًا.
وعلى الرُغم من ذلك، فهُناك رواياتٌ أُخرى تُفيدُ أنَّ الجُلُوس الثاني لِلسُلطان مُحمَّد قد تحقَّق بعد خمسة أو ستَّة أو حتَّى عشرة أيَّام من وفاة والده، أي في يوم الإثنين 6 مُحرَّم المُوافق فيه 8 شُباط (فبراير)، أو يوم الثُلاثاء 7 مُحرَّم المُوافق فيه 9 شُباط (فبراير)، أو في يوم السبت 11 مُحرَّم المُوافق فيه 13 شُباط (فبراير).
ونظرًا لِاختلاف تحديد تاريخ مولد السُلطان مُحمَّد، فإنَّ بعض الروايات تنص على أنَّه كان يبلغ من العُمر 18 سنة وعشرة أشهر وعُشرون يومًا عند جُلُوسه النهائي والأخير، وتنص روايات أُخرى أنَّهُ كان يبلغ العشرين من عُمره،أو ما بين 20 و25 سنة.
وما أن وصل مُحمَّد الثاني إلى عاصمة الممالك العُثمانيَّة، حتَّى أمر بِنقل جُثمان والده، الذي حُنِّط لِلحيلولة دون تحلُّله، من أدرنة إلى بورصة لِيُدفن بها.
وكان من أوائل الأعمال التي قام بها أن أرسل زوجة أبيه الصربيَّة، الأميرة مارا برانكوڤيچ، إلى والدها قيصر الصرب جُريج برانكوڤيچ.
وهذه الأميرة، التي قيل إنَّها كانت في الخمسين من العُمر، في تلك الفترة، طلبها الإمبراطور البيزنطي قُسطنطين الحادي عشر (الذي خلف شقيقه يُوحنَّا الثامن على العرش)، بِغية تأسيس علاقة نسب مع آل عُثمان؛ إلَّا أنَّ الأميرة رفضت طلبه.
واتَّبع مُحمَّد الثاني سياسةً شديدة الحذر نتيجة الأوضاع الداخليَّة والخارجيَّة.
ففي الداخل، وتجنُّبًا لِإثارة قلاقل سياسيَّة، أبقى خليل باشا الجندرلي في منصب الصدر الأعظم على الرُغم من سوء علاقتهما مُنذ أن خدعه الباشا وجعلهُ يتنازل عن العرش لِصالح والده كما أُسلف.
والحقيقة أنَّ خليل باشا كان الرجل المُناسب لِانتهاج سياسة التهدئة التي بدا أنها تفرض نفسها في ذلك الوقت، إذ أنَّ النكبات التي وقعت في عهد مُراد الثاني جعلت الصدر الأعظم ورجُل الدولة المُحنَّك يتهيَّب رد الفعل الخطير الذي يُمكن أن يأتي من الغرب الأوروپي، ويميل إلى اتباع سياسة الوفاق، هو والمجموعة التي يتزَّعمها من الوُزراء والساسة والقادة.
أمَّا على الصعيد الخارجي، فقد عمل مُحمَّد الثاني على تجديد مُعاهدات الصُلح مع الوُفُود الأجنبيَّة التي قدمت لِتهنئته بِتربُّعه على العرش، وكان ممن أرسل وُفُودًا إليه بِهذا الصدد: الإمبراطور البيزنطي قُسطنطين الحادي عشر الذي أرسل أخاه دمتريوس أمير المورة، وإمبراطور طرابزون يُوحنَّا الرابع، والوصيّ على عرش المجر يُوحنَّا هونياد، وقيصر الصرب جُريج برانكوڤيچ، وأميرا الأفلاق ومدللي، وحُكُومتا راگوزة وجنوة، وفُرسان الإسبتاريَّة في رودس، والجاليات الجنويَّة في ساقز وغلطة.
وقد عامل السُلطان الوفد البيزنطي مُعاملةً وديَّة بارزة، وأظهر لهم ميلًا كبيرًا من خِلال قبوله بِتأدية ثلاثمائة ألف آقچة سنويًا، إلى الخزينة البيزنطيَّة، مُقابل مصروف الشاهزاده أورخان، الذي لمَّح الأمير البيزنطي إلى إمكانيَّة إطلاق سراحه.
كما عقد مُعاهدةً سلميَّة مع عدُوَّة العُثمانيين اللَّدودة، أي مملكة المجر، وعرض عليه وفد جُمهُوريَّة راگوزة زيادة مبلغ الخِراج الذي كانت تدفعه هذه الدولة إلى العُثمانيين.
ومن المعلوم أنَّ موضوع فتح القُسطنطينيَّة كان يشغل حيزًا كبيرًا من تفكير السُلطان الشاب، ورأى أنَّه من الأنسب له أن يتعامل مع الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة على نحوٍ حسنٍ، مثل غيرها من الدُول، إلى حين الانتهاء من الاستعدادات وحُلُول اللحظة المُلائمة لِلقضاء على تلك الدولة العجوز التي تتوسَّط بلاده.
إخضاع الإمارة القرمانيَّة
واجه مُحمَّد الثاني، في بداية حياته السياسيَّة، بعض الصُعُوبات في الأناضول، ذلك أنَّ الأمير إبراهيم بن مُحمَّد القرماني، وبِتشجيعٍ من الإمبراطور البيزنطي قُسطنطين الحادي عشر، والبنادقة الذين عقد معهم مُعاهدةً تجاريَّة، استغلَّ مرحلة الانتقال من عهدٍ إلى عهد، فأشهر العصيان وهاجم الأراضي العُثمانيَّة في أنطالية على رأس جمعٍ من جُنُوده، على أمل استرداد أراضي إمارة آبائه التي أُلحقت بِالدولة العُثمانيَّة. ولم يكتفِ بِذلك بل حثَّ أبناء وأحفاد الأُمراء التُركمان، الذين استوطنوا إمارته بعد ضمِّ بلادهم إلى الدولة العُثمانيَّة، على الاقتداء به، فأرسل أميرًا من بني كرميان إلى كرميان، وأميرًا من أولاد أُمراء آيدين إلى ناحية آيدين، وأحدًا من بني صاروخان إلى بلاد صاروخان، وآخر من بني مُنتشا إلى ديار مُنتشا، وزوَّد كُلٌ منهم بِجمعٍ من العساكر القرمانيَّة وكان بكلربك الأناضول آنذاك هو عيسى بك بن أزغرلي، فعرض الحال إلى العتبة السُلطانيَّة واستأذن لِقتال القرمانيين، إلَّا أنَّ السُلطان لم يأذن له في ذلك، بل عزله ونصَّب مكانه الغازي إسحٰق باشا، وجعله بكلربكيًّا على الأناضول، ثُمَّ أرسلهُ للقضاء على حركة الأمير القرماني ومن شايعه من الأُمراء، وعبر السُلطان أيضًا في عقبه إلى الأناضول
ولمَّا علم إبراهيم بك، الذي تقدَّم إلى مدينة «آق شهر»، بِعُبُور السُلطان، هرب إلى هضبة «طاش إيلي» في قيليقية، ملجأ آبائه، وكذلك فعل الأُمراء الذين نصَّبهم، فهرب كُلُّ واحدٍ منهم إلى ناحيةٍ مُختلفة، فسار السُلطان وسيطر على البلاد القرمانيَّة كُلَّها، ونزل بِخارج قونية، وشرع في السيطرة على هضبة «طاش إيلي» أيضًا، فخاف الأمير القرماني واضطرَّ إلى طلب الصُلح، فأرسل إلى السُلطان مُحمَّد يستعفيه، وإلى الوُزراء يستشفعهم، ويلتمس من السُلطان أن يقبل ابنته لِلزواج، فأجابهُ السُلطان إلى مُلتمسه وعفى عنه، واستردَّ بلدات آق شهر وبيشهر وسيدي شهر، التي كان والده قد اضطرَّ إلى التخلِّي عنها.
وتعهَّد الأمير القرماني، بِالإضافة إلى الولاء التام لِلدولة العُثمانيَّة، بِإرسال مبلغٍ من المال سنويًا إلى خزينتها.
ولمَّا تمَّت إجراءات الصُلح، قفل السُلطان مُحمَّد وعاد إلى بورصة كونه كان يُريد الاشتغال بِإعددات فتح القُسطنطينيَّة.
وعلى الرُغم من ذلك، كان مُحمَّد الثاني يُفكِّر في القضاء النهائي على الإمارة القرمانيَّة، حيثُ تحدَّث عن ذلك من خِلال بيتٍ شعريٍّ، مُشيرًا إلى أنَّهُ كان يتحيَّن الفُرصة المُناسبة لِذلك، حيثُ قال فيه ما معناه أنَّ الأمير القرماني يُنافسه على السُلطة، فإن قدَّر الله له فسوف يقضي عليه.
وقبل أن يسير السُلطان إلى بورصة، أرسل إسحٰق باشا إلى مُنتشا لِدفع غائلة إلياس بك الذي استولى على تلك البلاد
. وإلياس بك المذكور هو حفيد الأمير مُظفَّر الدين إلياس، آخر أُمراء بني مُنتشا، فسار إسحٰق باشا وأخرج إلياس المذكور من تلك الديار حتَّى هرب والتجأ إلى فُرسان الإسبتاريَّة في رودس. ولمَّا عاد إسحٰق باشا بعد إتمام أمر تلك البلاد، أمره السُلطان بِأن ينقل مقر إدارته من أنقرة إلى كوتاهية، فأصبحت عاصمة إيالة الأناضول مُنذُ ذلك الحين.
وبِهذا استُعيد النظام والهُدُوء في آسيا الصُغرى مؤُقتًا.
بدء عادة تقديم بقشيش الجُلُوس
لمَّا عاد السُلطان من حملته على الإمارة القرمانيَّة، ودخل بورصة، اصطفَّ الإنكشاريُّون وقطعوا عليه الطريق في محلٍّ ضيِّقٍ من المدينة، وطلبوا منه عطيَّة أو بقشيشًا، ورفضوا فتح الطريق أمام سُلطانهم قبل الدفع، فتوسَّط طُرخان بك وشهاب الدين شاهين باشا الخادم بينهم وبين السُلطان وشفَّعاه فيهم، فأعطاهم عشرة أكياس من الدراهم، فانكشفوا عن الطريق. ولم يتردد السُلطان مُحمَّد بِإظهار غضبه وامتعاضه من هذه الحادثة، وصبَّ غضبه على مُقدِّمي هذه الطائفة العسكريَّة وقادتها، فعزل آغاهم دوغان بك القازنجي وضربه ضربًا شديدًا بِيديه، وأمر أيضًا بِضرب كُل واحدٍ من الياباباشيَّين لِعدم قيامهم بِمُهمَّتهم بِتأديب الجُند،ثُمَّ أقدم على عزل عددٍ من قادة الإنكشاريَّة، كما أجرى تشكيلاتٍ في قُوَّاتهم.
ويُروى أنَّ بقشيش الجُلُوس، الذي أدَّى فيما بعد إلى العديد من الأزمات الماليَّة والأزمات السياسيَّة في الدولة العُثمانيَّة، بدأ بِهذه الصُورة. وهذا الحادث، الذي فتح المجال لِطلب المال بِالقُوَّة دون أي مُناسبة، عُدَّ بداية اختلال نظام الإنكشاريَّة.
مسألة قتل الشاهزاده الرضيع المُسمَّى أحمد
نصَّت بعض المصادر أنَّ السُلطان مُحمَّد، بِمُجرَّد جُلُوسه على العرش ونقله جُثمان والده لِيُدفن في بورصة، أمر بِقتل أخٍ لهُ رضيع يُسمَّى أحمد، فقُتل خنقًا وأُرسل جُثمانه مع والده إلى بورصة.
وقيل أنَّ أحمد المذكور هو أصغر أولاد مُراد الثاني، وأنَّ قتله جاء خوفًا من ادعاءه السُلطة مُستقبلًا، وأنَّ مُحمَّد الثاني قنَّن الإعدامات السياسيَّة حتَّى يُمكن منع أبناء السلاطين من التنازع على الحُكم الذي من شأنه أن يُفتِّت وحدة الدولة كما حصل بعد نكسة أنقرة وأسر المغول للسُلطان بايزيد الأوَّل ووُقُوع الفوضى والاضطرابات في البلاد نتيجة صراع أبنائه من بعده؛ فأصبحت هذه العادة دُستورًا لِآل عُثمان مُنذ عهد السُلطان مُحمَّد الثاني، وكُتبت على النحو الآتي: «إِنَّ مَن تَيَسَّرَ لَهُ الحُكم مِن أَولَادِ الحَاكِمِ، فَيَجُوزُ لَهُ قَتلُ إِخوَانِهِ، لِتَوفِيرِ النِّظَامِ لِلعَالَمِ، وَلَقَد أَجَازَ ذَلِكَ مُعظَم العُلَمَاء. فَليُعمَل بِمُوجَبِهِ».
تُعاني هذه الرواية من عدَّة مُشكلات، ولا يتفق المُؤرخون على حُدوثها، ويبدو أنَّها صيغت في أوروپَّا الغربيَّة أو على يد أحد المُؤرخين البيزنطيين، وأبرز نقاط الضعف فيها أنَّ السُلطان مُراد لم يثبت في المصادر العُثمانيَّة العائدة لِزمنه أنَّ لهُ ولدٌ رضيع يُسمَّى أحمد، وابنه الوحيد المُسمَّى أحمد كان يكبر مُحمَّد الثاني بِبضع سنوات، وتُوفي وهو في مُقتبل العُمر في حياة والده، سنة 1437م، قبل تولِّي مُحمَّد الثاني إيالة الرُّوم، كما أُسلف.
علمًا أنَّ المصادر العُثمانيَّة لا تُنكر قتل السُلطان الفُلاني لِأخوه أو إخوته، كما أنَّ أشجار النسب العُثمانيَّة لا تجعل لِلسُلطان مُراد الثاني ابنان اسم كُلٍّ منهما أحمد، بل ابنٌ وحيد.
بناءً على هذا، فإنَّ المُؤرخين ينقسمون إلى القول بِأحد الآراء الثلاثة التالية:
الحادثة مشكوكٌ فيها، وليست مُؤكَّدة؛ لِأنَّ المُؤرِّخين - حتَّى الأجانب منهم - كالمُؤرِّخ البُغداني دمتري قانتمير (بالرومانية: Dimitrie Cantemir) ذكروا بِأنَّ السُلطان مُراد الثاني عندما تُوفي كان جميع أبنائه - عدا مُحمَّد - قد توفوا، ومن ضمنهم الشاهزاده أحمد الذي تُوفي عندما كان واليًا في أماسية. وفي حالة صحَّة هذا ينتفي أمر قتل الرضيع أحمد، كما أنَّ الأديب والشاعر العُثماني اللاحق نامق كمال رأى أنَّ قتل الشاهزاده أحمد ليس سوى افتراء، وقد دافع بِحرارةٍ عن أنَّ السُلطان مُحمَّد الثاني لا يُمكن أن يرضى بِهذا الظُلم أبدًا. وهُناك بعض المصادر التاريخيَّة التي تُؤيِّد وُقُوع هذه الحادثة ولكنَّها تذكر أنَّ قاتل الشاهزاده الصغير هو علي بك بن أفرنوس، وأنَّ السُلطان مُحمَّد عاقبه على جريمته هذه وأعدمه.
بعض المصادر التاريخيَّة تذكر أنَّ السُلطان مُراد الثاني أنجب من زوجته خديجة حليمة خاتون، ابنة الأمير عزُّ الدين إسفنديار بك الجندرلي، ولدًا اسمه أحمد، وأنَّهُ قُتل بعد فترةٍ قصيرةٍ من ارتقاء مُحمَّد الثاني العرش، غير أنَّهُ لا توجد تفاصيل أكثر حول هذا القتل كالتفاصيل الموجودة في قتل أبناء سلاطين آخرين، كما لا يُعرف على التحديد كم كان سنُّه، عدا إشارةٍ من المُؤرِّخ الألماني فرانتس بابنگر (بالألمانية: Franz Babinger) بِأنَّ عُمره كان ستَّة أشهر.
كانت الظُرُوف التي اعتلى فيها مُحمَّد الثاني العرش بعد وفاة والده ظُروفًا صعبةً جدًّا، فالمُؤامرات كانت تُحاك من قِبل بيزنطة لِتمزيق الدولة العُثمانيَّة بِاستغلال أبناء البيت العُثماني، كما سبق لها وفعلت خِلال عهد الفوضى الذي تلى هزيمة أنقرة، في سبيل ضرب العُثمانيين بعضهم ببعض وإلهائهم عن أراضي الروم، وكان باستطاعتهم استعمال ورقة الشاهزاده أورخان وغيره من المُؤهلين لِتولِّي العرش العُثماني
. وفي مثل هذا العهد المُضطرب يجوز أن يكون الشاهزاده أحمد قد قُتل في سبيل الحفاظ على استقرار البلاد قبل قيامه بِالعصيان، على أنَّ سنُّه الحقيقي يبقى محل تساؤل.
بِالإضافة إلى ما سلف، ينفي بعض الباحثين هذه التُهمة عن مُحمَّد الثاني على اعتبار أنَّهُ لو أراد قتل أخيه لفعل ذلك بِطريقةٍ غير مكشوفة لا تُثير الشُكُوك
. إذ قيل أنَّ علي بك بن أفرنوس، القاتل المُفترض لِلطفل، اقتحم حمَّام النساء حيثُ كانت مُربية الرضيع تقوم بِغسله، فأخذه منها وغطَّسه تحت الماء حتَّى مات مُختنقًا غرقًا، على مرأى من نساء القصر وخادماتهنَّ. ويُرجِّح هؤلاء أنَّ هذا الطفل، لو وُجد فعلًا ومات غرقًا كما قيل، أن يكون موته نتيجة غفلة مُربيته، فسقط منها في حوض الماء وغرق أثناء انشغالها عنه.