حياته قبل السلطنة
وُلد مُحمَّد الثاني في السراي السُلطانيَّة بِمدينة أدرنة، عاصمة الدولة العُثمانيَّة آنذاك، واختُلف في تحديد يوم مولده، فقال المُؤرِّخ مُحمَّد فريد بك المُحامي أنَّ مولد هذا السُلطان كان يوم 26 رجب 833هـ المُوافق فيه 20 نيسان (أبريل) 1429م، وقال أحمد مُنجِّم باشي أنَّ مولده كان يوم السبت 7 رجب 833هـ المُوافق فيه 31 آذار (مارس) 1430م أو سنة 834هـ المُوافقة لسنتيّ 1430 و1431م، بينما قال يلماز أوزتونا وأحمد آق كوندز وسعيد أوزتورك وغيرهم، أنَّ ولادة مُحمَّد الثاني كانت صبيحة يوم 30 آذار (مارس) 1432م، وهو يُوافق 28 رجب 835هـ،ويُروى أنَّ السُلطان مُراد الثاني لم ينم طوال الليل عندما علم بِدُخول زوجته خديجة هُما خاتون في المخاض، وظلَّ يقرأ القُرآن مُنتظرًا البِشارة بِميلاد ابنه، وبينما كان يقرأ سورة الفتح وصلتهُ البِشارة بأنَّ زوجته أنجبت صبيًّا، ففرح وقال: «الْحَمْدُ لِلَّهِ، لَقَدْ تَفَتَّحَتْ وَرْدَةٌ مُحَمَّدِيَّةٌ فِي رَوْضَةِ مُرَادٍ»، وأسماه مُحمَّدًا، ثُمَّ أمر بِأن تعم الأفراح كافَّة الأرجاء ابتهاجًا بِقُدُوم الشاهزاده الصغير.
وكانت قابلة الشاهزاده الوليد تُدعى «إبه خاتون» ومُربيته وأُمِّه من الرضاعة «أُم كُلثُوم خاتون».
أُبقي مُحمَّد الثاني في أدرنة حتَّى بلغ عامه الثاني، ثُمَّ أرسله والده إلى أماسية في الأناضول، حيثُ كان أخيه البكر المُسمَّى أحمد، يتولَّى إيالة الرُّوم، وإلى جانبه شقيقه الآخر علاءُ الدين عليّ.
ولمَّا تُوفي أحمد سنة 1437م، عيَّن السُلطان مُراد ابنه مُحمَّد واليًا على الإيالة المذكورة، وكان قد بلغ من العُمر نحو ست سنوات، بِحسب المُؤرِّخ التُركيّ خليل إينالجك، ونقل علاء الدين إلى مغنيسية وولَّاه عليها، وبعد حوالي سنتين بدَّل السُلطان مُراد ولاية ولديه مُجددًا، فنقل علاء الدين إلى أماسية ومُحمَّدًا إلى مغنيسية.
خصَّص السُلطان عدَّة مُدرِّسين لِتعليم ابنه اليافع أثناء فترة ولايته في أماسية، لكنَّ الشاهزاده الصغير كان مُشاكسًا يرفض الانصياع لِأوامر مُعلِّميه، فلم يمتثل لِأمر أحدٍ منهم، ولم يقرأ القُرآن حتَّى يختمه.
فطلب السُلطان مُراد رجُلًا لهُ مهابة وحدَّة لِيُوكل إليه مُهمَّة تربية ولده وتأديبه، فذكروا لهُ العلَّامة المولى أحمد بن إسماعيل الكوراني، فجعلهُ مُعلِّمًا لِابنه، وأعطاه بِيده قضيبًا لِيضربه به إذا خالف أمره.
فذهب إليه ودخل عليه، والقضيبُ بِيده، وقال لهُ أنَّهُ آتٍ لِتعليمه وضربه لو خالف أمره. فضحك الشاهزاده مُحمَّد من هذا الكلام، فضربهُ المولى الكوراني في ذلك المجلس ضربًا شديدًا حتَّى خاف منه الفتى، وختم القُرآن في مُدَّةٍ يسيرةٍ، ولم يبلغ الثامنة، ففرح بِذلك السُلطان مُراد وأنعم على الكوراني بِالمال والهدايا.
بِالإضافة إلى العُلُوم الإسلاميَّة المُعتمدة عند جُمُهور العُلماء المُدرِّسين، قرأ مُحمَّد الثاني على المولى الكوراني كُتُب التاريخ وتعلَّم اللُغتين العربيَّة والفارسيَّة إلى جانب التُركيَّة، وأتقن هذه اللُغات قراءةً وكتابةً ومُحادثةً وترجمةً.
وكلَّف السُلطان مُراد بِتعليم ابنه مُحمَّد مُعلِّمًا ثانيًا هو الشيخ شمسُ الدين مُحمَّد بن حمزة الدمشقي المُلقَّب «آق شمسُ الدين»، فاشترك مع الكوراني في تربية وتهذيب وتعليم الشاهزاده، فأتقن على يديهما عُلُوم القُرآن وعلم الحديث والفقه وأُصُوله وأُصُول الدين والتاريخ والجُغرافيا والمنطق، بِالإضافة إلى الرياضيات والفلك وفُنُون السياسة الشرعيَّة.
ويُروى أنَّ العالمان الكوراني وآق شمس الدين غرسا في نفس تلميذهما مُنذُ صغره بِأنَّهُ الأمير المُجاهد المقصود بِالحديث النبوي والذي سيفتتح القُسطنطينيَّة.
ومن العُلماء المُسلمين وغير المُسلمين الذين تتلمذ مُحمَّد الثاني على أيديهم: محمود بك قصَّاب زاده، وإبراهيم باشا النيشانجي الذي أخذ عنه علم الرماية، وشهاب الدين شاهين باشا الخادم الذي أخذ عنه العُلُوم العسكريَّة، والبكلربك سنان باشا، والمُلَّا سراجُ الدين مُحمَّد النيشانجي، وقاضي العسكر المُلَّا خسرو مُحمَّد أفندي، والمُلَّا الفقيه إلياس الأماسيلِّي، ومُحمَّد ده ده الشرواني.
ودرس الآداب على يد المُلَّا الفقيه حميد الدين بن أفضل الدين، والشعر عن أحمد باشا الرومي، وهو أحد أبرز دُهاة الشُعراء في عصره.
وأخذ الموسيقى عن كُلٍ من شُكر الله چلبي ووليُّ الدين أفندي.
وأخذ اللٌغة الروميَّة عن جرجس أميروتزس الطرابزُني (باليونانية: Γεώργιος Αμιρουτζής)، وأخذ اللُغة اللاتينيَّة وتاريخ العُصُور الكلاسيكيَّة القديمة وعلم الآثار عن شيرياكو دي پيتسيكولي (بالإيطالية: Ciriaco de' Pizzicolli)، وأخذ التاريخ الإيطالي والأوروپي عن يُوحنَّا ماريا أنجيوللو (بالإيطالية: Giovanni Maria Angiolello).
واطلع الشاهزاده على كُتب الحيل والصناعات الحربيَّة الآليَّة، وقرأ ما توفَّر لهُ من نُصُوص المشاريع الأوروپيَّة لِتدمير السلطنة العُثمانيَّة وما سبقها من دُول المُسلمين.
وما زال أرشيف سراي طوپ قاپي يحتفظ بِكرَّاسة مُحمَّد الثاني التي خطَّ عليها بِالأحرف العربيَّة واللاتينيَّة، وتمرَّس على الرسم بِالأسلُوب الروماني.
سلطنته الأولى
خِلال شهر نيسان (أبريل) 1440م، هاجم السُلطان مُراد مدينة بلغراد، الموقع الأمامي لِلمجريين، وضرب عليها حصارًا مُركَّزًا بِجيشٍ قوامه 35,000 مُقاتل، مُستغلًا التنازُع على العرش في مملكة المجر، الذي ظهر إلى حيِّز الوُجُود بعد وفاة الملك ألبرت الثاني.
دام الحصار العُثماني لِلمدينة ستَّة أشهر لم يتمكَّن السُلطان خِلالها من اقتحامها، ولمَّا تيقَّن أنَّ فتحها يحتاج إلى زمانٍ مديد، رفع الحصار عنها وأغار على بلاد الأردل (ترانسلڤانيا) وحاصر مدينة هرمنستاد، وفتح قلعة نوابرده.
أثار هذا الاندفاع العُثماني مخاوف القوى الأوروپيَّة من المد الإسلامي المُتعاظم سنة تلو الأُخرى، فنهضوا لِإيقافه على النحو الذي اتُفق عليه في مجمع فلورنسة قبل نحو سنة، أي عبر إرسال حملةٍ صليبيَّةٍ لِإخراج المُسلمين من الأراضي الأوروپيَّة وتخليص القُسطنطينيَّة من أخطارهم،وتولَّى ڤلاديسلاڤ الثالث الذي جلس على عرش المجر وبولونيا قيادة هذه الحملة شكليًّا، إذ أنَّ القائد الفعليّ كان يُوحنَّا هونياد أمير الأردل، وهو قائدٌ شُجاعُ باسلٌ شديد التعصُّب لِلمذهب الكاثوليكي، كان قد أخذ على عاتقه إخراج المُسلمين من البلقان، وجعل هذا هدفه الوحيد في الحياة، ودرس تكتيكات الحرب العُثمانيَّة بِصُورةٍ جيِّدة.
فأتى هذا القائد الشهير على جناح السُرعة لِلدفاع عن بلاده، وانتصر على العُثمانيين وقتل منهم عشرين ألف نفس (على أنَّ هذا الرقم قد يكون مُبالغًا فيه)، وقتل قائدهم وألزم من بقي منهم بِالرُجُوع خلف نهر الطونة (الدانوب).
ولمَّا بلغ السُلطان مُراد خبر انهزام جُيُوشه أرسل إليهم ثمانين ألف مُقاتل تحت قيادة شهاب الدين شاهين باشا الخادم، فهزمه أيضًا هونياد المجري وأخذه أسيرًا في موقعةٍ هائلةٍ بِالقُرب من بلدةٍ يُقالُ لها «وازاج» سنة 1442م. خِلال تلك الفترة كان السُلطان مُراد في الأناضول يُخمدُ عصيانًا قام به أمير القرمان إبراهيم بك بن مُحمَّد، وعندما عاد إلى أدرنة في صيف سنة 1443م، بلغهُ أنَّ الصليبيُّون بدأوا بِغزو الأراضي العُثمانيَّة وأنَّهم يعقدون العزم على المسير إلى العاصمة، وفي الوقت نفسه وصلت الأنباء من أماسية تُفيد بأنَّ وليّ العهد الشاهزاده علاء الدين عليّ قد تُوفي، ممَّا جعل مُحمَّد الثاني خليفة والده على العرش.
وسار السُلطان مُراد لِقتال الصليبيين، فلقيهم في بلاد الصرب حيثُ تعرَّض لِلهزيمة على يد هونياد في نيش، واقتفى القائد المجري أثر العُثمانيين إلى ما وراء جبال البلقان سنة 1443م، وظهر عليهم في ثلاث وقائع أُخرى.
وأخيرًا أبرم السُلطان مُراد الصُلح مع الصليبيين على أن يتنازل عن سيادته على الأفلاق ويرُدّ إلى قيصر الصرب جُريج برانكوڤيچ مدائن سمندريَّة وآلاجة حصار وأن يُهادن المجر مُدَّة عشر سنوات، وأُمضيت هذه المُعاهدة في 24 صفر 848هـ المُوافق فيه 12 حُزيران (يونيو) 1444م.
بُعيد إبرامه الصُلح بنحو شهرين، تنازل السُلطان مُراد عن المُلك لِابنه مُحمَّد، ويبدو أنَّهُ شعر بِالتعب، ورُبَّما كانت المُشكلات الداخليَّة والخارجيَّة وموت ابنه علاء الدين عليّ، الذي كان يُعدُّه لِخلافته، قد تركت لديه شُعُورًا حادًا بِالسَّأم، فرأى أن يعتزل السياسة، وتنازل عن العرش لِابنه الفتى البالغ أربعة عشر عامًا من العُمر، إذ أصبح أكبر أولاده الذُكُور وأرشدهم، فأرسل إليه كتابًا يستدعيه إليه، وكان في إقطاعة مغنيسية، فوصل إلى خدمة والده على وجه السُرعة وتسلَّم السلطنة.
ثُمَّ سافر السُلطان مُراد إلى جانب مغنيسية لِلإقامة بعيدًا عن هُمُوم الدُنيا وغُمُومها، وسار معهُ جمعٌ من خواصه، فاعتزل فيها لِلعبادة وانتظم في سلك الدراويش، وبقي في خدمة السُلطان الجديد الصدر الأعظم خليل باشا الجندرلي، وشهاب الدين شاهين باشا الخادم، والوزير الثاني صاروچه باشا، وقاضي العسكر المُلَّا خسرو مُحمَّد أفندي.
ويُروى أنَّ مُراد الثاني، الذي كان على علاقةٍ وطيدةٍ بالحاج بيرم وليّ صاحب الطريقة البيرميَّة، كان مُقتنعًا بِأنَّ هذا الصوفيّ من أولياء الله الصالحين، وأنَّ من أسباب تنحيه عن العرش، بِالإضافة لِإصابته بِالإرهاق والتعب والسأم ورغبته بِالتفرُّغ لِلعبادة والطاعة، رغبته بِأن يشهد فتح القُسطنطينيَّة، إذ أخبرهُ الحاج بيرم أنَّ شرف هذا الفتح لن يكون من نصيبه، وإنَّما من نصيب ابنه مُحمَّد والشيخ آق شمس الدين، فكان هذا دافعًا إضافيًّا له كي يتخلَّى عن عرشه.