كان سلمة قوي البنية، لقيه أحد التابعين، فطلب منه مصافحته، فأخرج لهم يده، فإذا هي تشبه خف البعير ضخامة، كان إسلام ابن الأكوع وهو ابن ستة عشر عاما بالتقريب، تزيد قليلا أو تنقص قليلا عن ذلك.. لكن لم يطل المقام كثيرا بسلمة بن الأكوع، فوقعت غزوة ذي قرد، كانت غارة مفاجئة، سبقت غزوة خيبر بثلاثة أيام كما في صحيح البخاري، ولقدر الله كان سلمة بن الأكوع، وغلامه رباح معا يتابعان الماشية التي تخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبوغتا بغارة قبيل الفجر، تفتق ذهن سلمة عن تصرف سريع، فهو فرد وحده، والمنطق يقتضي جلب المدد بسرعة، فطلب من رباح ركوب الفرس، والذهاب بها لصاحبها طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، وإخباره بالحدث، وهتف بدوره بصوت عال: يا صباحاه، فقد كان معتادا أن تقع الغارات صباحا، ولكن هذا النداء غدا شعارا للإنذار بوقوع الغارة.. في أي وقت.. بقي عليه تنفيذ خطة طوارئ، استغل مهارته الأساسية، والمهارات الفرعية، نسج خطة هجوم كامل مبنية على الموارد المتاحة: الركض، والرمي، بهدف تحرير الإبل والماشية، وظل يركض، ويرمي بالنبال، والسهام التي معه، وظل يتابعهم بالركض، والمناورة، والاختباء وراء الكتل الصخرية، ورجمهم بالحجارة، وظل يوجه كل الماشية التي يفلتها المغيرون باتجاه المدينة، ومع الظلام تصور المهاجمون، أن ثمة عددا من الفرسان، ومع الفجر اكتشفوا أنه شخص واحد.. ويبدو أن عددا من الفرسان عاد لغطفان خائفا من الهجوم المعاكس الذي قاده فرد، فجاء عيينة بن حصن كبير غطفان مددا، فأخبره المغيرون المرهقون من فرد واحد، فأجابهم بأنه من المحتمل أن يكون له مدد كامن، ينتظرهم، والأفضل لهم أن ينسحبوا.
استمرت المطاردة لعدة ساعات حتى امتد الضحى، ويمكن تقدير هذه المسافة بأنها أربع ساعات كاملة، ويبدو أن اليوم كان شاتيا، إذ لم يشر ابن الأكوع في روايته إلى حر الشمس، وهو أمر مألوف في الجزيرة العربية خاصة في أوقات الصيف، فعدم إشارته لحر الشمس، دال على كون الوقت كان بداية الشتاء، حيث يعتدل الليل، والنهار، علاوة على ذلك أن الضحى وقت يبدأ من بعد شروق الشمس بربع ساعة إلى ساعة بالتقريب، وحتى قبيل الظهر، فامتداده دال على توسط ذلك الوقت، فيمكن القول أن الركض استمر لأربع ساعات متصلة. لماذا أحلل هذا التحليل؟ قد يبدو مستبعدا قيام شخص بالركض لأربع ساعات متصلة، وبدون تناوله الطعام أو أي مصدر من مصادر الطاقة، ما قد يجعل الرواية برمتها عرضة للشك، وعلى أي حال فإن المتأمل جيدا في متن الرواية، يلاحظ أن ابن الأكوع نفسه لم يكن يركض باتصال، بل كان يستعيد نفسه، وهذا ما ورد في ذيل الرواية، ففي اليوم التالي، تحدى رجل من الأنصار كان لا يسبقه أحد عدوا، أن يسابق، فقبل سلمة تحديه، وركض، ثم هدأ سرعته “شرفا أو شرفين” ثم واصل الركض، فسبقه، ما يدل على أن سلمة كان سريع الركض، متقنا لفنون التحمل. لكن المعركة لم تتوقف، بل أكملها الصحابة لاحقا، وبعد أن استعاد سلمة أنفاسه، أكمل ركضه بعيد العصر، وهنا ثغرة زمنية طويلة لا يذكر سلمة فيها أحداثا عدا استشهاد الأخرم الأنصاري رضي الله عنه، وتقدم أبي قتادة بفرسه لاحقا وراء المغيرين، وهذه عادة عربية في إيجاز الكلام، بإغفال الأوقات التي لم تحدث فيها أحداث ذات بال، فلا يعتقدن أحد أن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه ركض لما يتجاوز اثتني عشرة ساعة متصلة، فالرواية لا تصرح بذلك، بل تترك مسافة لا تقل عن ثماني ساعات متصلة كان سلمة فيها شاهدا فيها على عدد من الأحداث. عدا مجددا قبيل الغروب، وعاد مجددا، ليجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسا مع الصحابة رضي الله عنهم، وقد استعاد سلمة والمسلمون ما نهب منهم، وقد رغب سلمة في أن يهاجم المغيرين، فقال له صلى الله عليه وسلم: “ملكت فاسجح” أي ترفق، ربما كان ذلك حماية لسلمة من غرور النصر، فالإنجاز قد يدفع صاحبه لمسار غير محسوب، ينتهي بخسارة، ويكون معها إحراز نصر حاسم ذا تكلفة عالية. قال صلى الله عليه وسلم: “خير فرساننا أبو قتادة، وخير رجالتنا سلمة” (صحيح مسلم)، وقسم له من المغنم نصيب الراجل، والفارس معا، تقديرا لجهده، وبذله، فقد قام بمهمة الفرسان، والمشاة في وقت واحد. وفي اليوم التالي، تحدى رجل من الأنصار كان بطل المدينة في العدو، طالبا أن يسابقه أحدهم، فقبل سلمة التحدي، واستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فترك الخيار له، فاختار سلمة المسابقة، وانطلق، وبعد مسافة، توقف قليلا ليستبقي نفسه، ثم ركض بسرعة شديدة، حتى أمسك الأنصاري بين كتفيه، ففاز سلمة
لكن بعد أيام قليلة، فجع سلمة بعمه عامر ابن الأكوع المنشد ندي الصوت، وقاتل فيها، وأصابته ضربة في ساقه بقي أثرها فيه، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفث فيها، فبرئت، ربما ساور سلمة القلق على ساقه حينها، لكن شفاءها بلا شك أراح نفسه، كما شهد نموذجا للفروسية المتشبعة بالإيمان حينما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه، ووصفه بأنه يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن هذا الأمر، غرس في نفس سلمة الارتباط الوثيق بين القوة البدنية، وتشبعها بالقوة الروحية، حيث يتملك الإيمان قوى الإنسان، ويتحكم فيها، ويرتقي بها. وعن علاقته بالنبي صلى الله عليه وسلم، يقول عن نفسه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح وجهه مرارا، واستغفر له مرارا، ودعا له مرارا، أثمر ذلك تعلق سلمة بالنبي صلى الله عليه وسلم، حتى أنه كان يصلي صلاة الضحى في موضع معين من المسجد، ولما سئل عن ذلك، ذكر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى هذا الموضع لصلاة الضحى عنده، فاستجلاب الاقتداء يكون بإظهار الرحمة والسمو الخلقي من المقتدى به.
والمطالع لسيرة سلمة يجد أنه عاد للبادية، واستوطنها، وهو أمر لافت للنظر، لكن لماذا أذن النبي صلى الله عليه وسلم لسلمة وقومه في العود للبادية، والعيش فيها؟ كان الإذن عاما من النبي صلى الله عليه وسلم لقبيلة أسلم، فقد أمرهم بذلك، وقال لهم: “تنسموا الرياح، واسكنوا الشعاب”، وربما كان ذلك حفاظا على صحتهم في أبدانهم، فبعض الأعراب كانت لا تناسبه بيئة المدينة الزراعية، وقد وقع مثل ذلك لبعض الأعراب قبل ذلك، وهم العرنيون أصحاب القصة المشهورة، وعلى هذا يدل أمره صلى الله عليه وسلم للقوم، بأن يحصلوا على متنفسات واسعة، وأن يسكنوا أماكن يستطيعون الحركة فيها، وبالنسبة لسلمة، فإنه سيحتاج لمكان فيه مساحات للعدو، والتريض، وربما لإظهار جواز البقاء في البادية لأهلها، ويبقى هذا الأمر في علم العزيز العليم. وأقدر أن هذا الأمر جرى بعد فتح مكة ، حيث لا هجرة بعد الفتح، وإنما عمل صالح، ونية، فقد زالت عوامل القلق، والتوتر عن المجتمع المسلم، وصار بإمكان أهل البادية العودة إليها إن شاؤوا، خاصة إن كانوا قد تشربوا العلم، وحملوه، وتهذبت روحهم بخلق الإسلام، وقيمه العالية. لكن سلمة ظل ينزل المدينة، ويعود للبادية بين فترة، وأخرى، وثبت أنه كان من بين من يفتي من الصحابة، وروى عنه ابنه، وعدد من التابعين الحديث النبوي، حتى توفي في المدينة عام أربع وسبعين للهجرة عن تسعين عاما أو أقل قليلا.