في حضرته تأخذك عقارب الزمن إلى مئات من السنين قد مضت، فالتنقل بين جنباته كفيل أن يسمو بروحك في رحلة عابرة إلى العصر الذهبي للحضارة الإسلامية والتراث المعماري الفريد، لوحة فنية مكتملة الأركان، تصميم هندسي خالٍ من الشوائب المبعثرة، لحن شجي يطرب آذان العاشقين للتاريخ، المتذوقين لعبقه، القابعين فوق أعتابه.
مسجد محمد علي واحد من معالم القاهرة الأثرية وأحد رموزها الشامخة، مهبط الحضارات وقبلة الملايين من مختلف دول العالم، مكانته وقيمته التاريخية والفنية جعلته هدفًا للباحثين عن الأصالة، المتذوقين للتراث، مسلمين وغير مسلمين، فبات مزارًا لكل من تطئ أقدامه أرض الكنانة، وعنوانًا للمنقبين عن الفن بين النقوش وداخل الأحجار الكريمة المرصع بها جنبات المسجد.
أنشئ على الطراز العثماني على غرار جامع السلطان أحمد في إسطنبول، لكن سرعان ما تحول مع مرور الوقت إلى المسجد الرسمي للدولة لإقامة الاحتفالات والشعائر الدينية في مختلف المناسبات، اهتم به حكام مصر في الحقب الزمنية المختلفة، حتى بات تحفة فنية تبهر الناظرين من أول وهلة وتأسر قلوب كل من يعبر بطيفه من أمام عتباته.. فما حكاية هذا المسجد الذي اختصه وزير الطاقة الإسرائيلي يوفال شتاينتس، بالزيارة منتصف الشهر الحاليّ، على هامش زيارته لمصر؟
إقرأ أيضًا/فناء الحب سد
20 عامًا من الإنشاء
بدأ التفكير في بناء المسجد عام 1820، فبعد انتهاء محمد علي باشا من إتمام إصلاح قلعة صلاح الدين الأيوبي، طلب تصميم جامع بالقلعة، لأداء الفرائض وليكون به مدفنه، وذلك على أطلال أبنية قديمة تعود لعصور المماليك، وتم بناؤه سنة 1265هجرية 1848ميلادية، وفي عهد عباس باشا الأول تمت نقوشه وزخارفه، حسبما أشار باسكال كوست المعماري الفرنسي الشهير في مذكراته.
لم يقل اهتمام خلفاء محمد علي بالمسجد عن والدهم، فأتموا البناء وأضافوا إليه بعض الإضافات البسيطة، كما جعلوه مقرًا للاحتفال بالمناسبات الدينية، حيث شهد عمليات عدة من التجديد والترميم، بداية من عباس باشا الأول الذي أمر بإتمام أعمال النقش والتذهيب وبعض أعمال الرخام بالجامع الذي خصص به مدفن لوالي مصر الكبير، كما أمر بتعيين القراء ورصد الخيرات على الجامع.
ومع تولي محمد سعيد باشا الحكم قرر أن يكون الجامع الكبير مكانًا رسميًا للاحتفالات الدينية في مصر، حيث كانت تتم في خمس ليال كل عام، بدءًا من ليلة الإسراء والمعراج وليلة النصف من شعبان، حتى ثلاث ليال من شهر رمضان المعظم، وهي الليالي التي تصادف ذكرى وفاة محمد علي باشا، وليلة دفنه بمدفنه بالجامع ثم ليلة القدر.
إقرأ أيضًا/المتحف القبطى
المسجد إداريًا تم تشييده في مساحة تابعة لقصر الأبلق داخل قلعة صلاح الدين الأيوبي، وهو حاليًّا من آثار حي الخليفة التابع للمنطقة الجنوبية بالقاهرة، ويجاوره داخل القلعة مسجد الناصر قلاوون، أما في الخارج فهو محاط بكوكبة من المساجد الأثرية الرائعة منها مسجد السلطان حسن ومسجد الرفاعي ومسجد المحمودية ومسجد قاني باي الرماح ومسجد جوهر اللالا.
في عام 1820 طلب محمد علي باشا تصميم المسجد من المعماري الفرنسي كوست إلا أن المشروع توقف حتى أوكل تصميمه إلى المهندس التركي يوسف بشناق الذي وضع في مخيلته عند بناء المسجد أن يكون على شاكلة مسجد السلطان أحمد بالأستانة، فاقتبس من تصميمه المسقط الأفقي بما فيه الصحن والفسقية مع بعض التغييرات الطفيفة.
وضع بشناق التصميم الكامل للمسجد الذي لاقى قبولاً واستحسانًا كبيرًا من الحاكم وقتها، ثم عهد إلى بعض المهندسين المصريين تنفيذ المشروع، ولم يستدل على اسم المهندس المنفذ فعليًا للمسجد، غير أن الكتابات التاريخية كشفت بعض الأسماء التي شاركت في عملية البناء من مساعدين وحرفيين وفنانيين
إقرأ أيضًا/الكا والبا