12:00 | 12 مايو 2017
رئيس مجلس الإدارة
الإشراف العام
محمد عشماوي
رئيس التحرير
منى الطراوي

ذو الطاقية والعكاز.

2020/09/28 10:29 AM | المشاهدات: 664


ذو الطاقية والعكاز.
أحمد السندري

إن لكل جيل رائدا في كل فن وخاصة فن الكتابة، يعرف كل ما يدور في عقول الأجيال التي ينتمي إليهم، وعقول الأجيال الجديدة أيضا، يمكنه بكل سهولة عقد مقارنة بين جيل هو منه، وبين جيل آخر عاصره، ففهم مراده من الحياة وكيفية التعايش مع أيدولوجيات عصرهم، وإلى أي مدى يكون رد الفعل تجاه الأفعال، والأحداث التي تصادفهم أو بمعنى آخر - أرى أنه الأصدق كونهم شبابا - تفاجئهم، وتحليل عاداتهم المختلفة تماما عن عادات ذلك الرائد في أيام شبابه. 

 

فتراه - ذلك الرائد - يعقد المقارنة بين هذا وذاك بكل حيادية ويذكر كيف تغيرت الأزمان وتغيرت معها مفاهيم الشباب، وكيف لعبت الأحداث في عقولهم ليصيروا على ما هم عليه، فتراه في كثير من الأحيان داعما بشغف لحماس الشباب وحيوتهم التي ما إن رآها شيخ، مرض بها كأنها الداء، فساقه حنينه إلى أيام شبابه يسرح في تلك الأيام التي يتذكرها، ويدافع - ذلك الكاتب - عن حرية الشباب في استقلالهم وتحررهم بدافع الاعتماد على النفس وحرية اختيار المصير الذي يختاره الشاب أن يمشي، ويخاطب الشيوخ ويوصي بهم أن يعينوهم بدافع التفاهم لما يريدون لا بدافع التسلط على رأيهم فيلقون النصائح كتساقط المطر، فذلك من العادات التي عكف عنها الشباب فلم يعدوا يستمعون إلى نصائحهم المتسلطة لا الملقاه بعد فهم مراد الشباب من شئ ما.

 

اقرأ أيضا/ هم أساس كل نهضة ؟.

 

قد غمرنا رائد من هؤلاء الرواد الكبار في مجال الأدب والرأي الحصيف، كاتب اعتبره الأب الروحي للأدب، أو أنه تبنى مجال الأدب عطفا منه وتكرما، ورأى فيه ما لم يراه في مجال المحاماة، وربما هناك ارتباط بينهما من حيث الهدف والغاية من كل منهما، فالادب والمحاماة مهنتان تحاولان نصر الحقيقة على الكذب، وتعتمدان هما الاثنتان على الصدق، وامتلاك قدر كبير من الضمير الحي، ولكنني أرى في الأدب قدرا كبيرا من الحرية، فالادب - في وجهة نظري - لا يكون إلا إذا كان حرا بعمله وفنه وتفكيره، يناقش كل قضية بحيادية بالغة، أراه ذلك الحكم في مبارة مهمة جدا، والكل يشاهدها، ويشاهد ذلك الحكم، على عكس المحاماة فإنه لا يكون حرا بشكل كامل فيها، يصير على قانون ينص أن يفعل كذا وكذا وأن يترافع بكذا وكذا، وقولي إن المحاماة لا تعطي ممثلها قدرا كافيا من الحرية لا يعني أن الأدب بلا قانون، وأنه يحق للكاتب ما يريد هواه دون إطار معين، كلا، فإن امتهان الكتابة عامة لها قانون هو أشد صرامة من ذلك الدستور المنوط به في مهنة المحاماة، وذلك القانون هو فقط ما يجب أن يكون لدى أي كاتب دون أن يشترط علمه بالقانون، فما أقصده هو الضمير والعقل والحكمة والإنسانية والصدق، والصراحة، وفي ذلك كله - لو اجتمع عند أديب - ألف راحةٍ وراحة.

 

وقد اجتمع في جوف ذلك الأديب توفيق الحكيم كل هذا بل وأكثر، مما جعله أديبا لبيبا حقا مرموقا في عصره وفي العصور من بعده، وعاش في قلوب الناس وعقولهم، بحكمته الرزينة،وعقله الفطن، وقلبه النابض باسم الإنسانية، متحدثا عن أي قضية هو صادفها رابطا بين حكمة عقله وصدق قلبه في شعوره، فيخرج لنا قانونا أدبيا في تلك القضية، ويعد ما كتبه مرجعا للناس، إن أرادوا التعقل قرأوا.

 

اقرأ أيضا/ ماذا قلت ؟.

 

وفي حقيقة الأمر، لقد عان الحكيم رفض والده فكرة أن يكون أديبا، فكان يخشى أن يلفظ أمامه لفظة واحدة بها كلمة فن، وكان كلما ضاق به الأمر قال عنه إنه الأدب فهى كلمة لطيفة يمحو اسمها كلمة الفن فلا أحد ينتبه، خصوصا والده لم يكن يعلم عن هذا المجال شيئا، فكان قلبه مروعا حين عرف أن ابنه يريد أن يصبح أديبا، ولم يكن ير لتلك المهنة قيمة، على عكس الحكيم كان يرى أن الأدب مهنة ذو قيمة رفيعة، وتمنح صاحبها الوقار، فكان من غياته في الأدب أن يعلّم الناس أشياءً تنفعهم في حياتهم، وربما كان ذلك مراد كل إنسان سوي في كل العصور على اختلافها عن بعض، ولكن مادمت ذكرت ذلك فلابد أن أذكر أن هناك من يريدون أن يؤثروا في العالم ليشهد - الناس - ذلك الأثر بعد مماتهم، فيطرقون طرقا يأذون بها الناس، وإذا سألتهم لماذا ذلك كله، يقولون "إن الغاية تبرر الوسيلة"، تلك الجملة التي جعلت الكثيرين يفعلون أشياء شنيعة في حق الناس، ويسلكون طرقا سيئة للغاية، وعندما يثور ضميرهم، يرددون تلك الجملة التي هي شماعة لتُعلق عليها أساليبهم الفاسدة، ليصلوا - كما يزعمون - إلى "غايتهم النبيلة".

 

كان توفيق الحكيم أبا، ليس لمن أنجبهم من زوجته فقط، فقد كان أبا لكل قارئيه من الشباب ، عندما يقرءون له كتبا عن الشباب فيجدون فيه روح الأب المعاصر لجيل الشباب، ولو أن كل شاب قرأ له، لاتخذه دليلا له، وأحبه، وكان لهم ما يريدون دون أن يعاصرهم في زمانهم أو زمانه، بإسلوبه المقنع، وبكلماته البسيطة التي تدخل العقل والقلب أيضا دون تردد ومراجعة. 

 

ومن قراءة سيرته الذاتية، تجده يقر بأن كل جيل مختلف تماما عن أجيال قبله وأجيال بعده، فهو ذكر كم كان والده على خلاف معه في أكثر اختياراته محتجا لجيله وعاداته التي لم يألفها الأب، ويذكر بعد أن بلغ سنا كبيرة، أنه كان يخشى أن يكون ابنه موسيقيا، وكان يخاف أن يمتهن ذلك الفن مع اعترافه بحرية الشباب في اختيارهم، وأي عمل يريدون أن يفعلوا، وأخذ يقول " إن قيمة أي عمل في تعميقه وإتقانه ، ورب عمل كبير انخفض بسطحية أصحابه، ورب عمل صغير ارتفع بعمق أصحابه، فذرة التراب تبقى ذرة تراب لمن يراها كذلك، وتصبح عالما تدور فيه أفلاك لمن يكتشف فيها ذلك"، فتلك حكمة من أبينا الحكيم في اختيار العمل، وهي مشكلة يقع فيها الشباب أجمعين في بداية حياتهم، وأكثرهم من يريد أن يكون" طبيبا " مثلا، أو" مهندسا "، ولكن بعض طلبة الطب لا يدخلون لحبهم في مجال الطب، وأنهم يريدون أن يضيفوا إليه، بل يريدون أن يحملوا لقب طبيب، فيُذكَر لقبهم فيصيرون فخورين متعالين، والأمر الذي يكون حال بعض طلبة الهندسة وحال غيرهم في مختلف المجالات.

 

اقرأ أيضا/ فن يجيده غير الفنانين

 

فذكر أديبنا - رحمه الله - ما هو العمل الكبير والعمل الصغير، وأن معيار القياس هنا هو صاحب العمل وليس العمل نفسه. 

 

ثم أجد في نفسه كثيرا مما يدور في نفسي، وربما دافع قولي "إن هذا الرجل يشبهني، ولكن من الداخل" هو الافتخار بذلك القول وإعجابي بميزان عقله، واستقامة فكره العميق ، والذي - في الوقت ذاته - بلغ أقصى درجة من البساطة.