صحيح أن الكلمات تحتضن الأوراق نثرًا و أن الحبر أحيانًا يسيل بدلًا من الدمعِ ولكن ...
ما هى تلك العقيدة التى تجعلنى أمسك بقلمى لأكتب لمتوفى؟!!
و ما كل هذا اليقين أن الإجابة يومًا ما ستأتى ؟
الأمر لا يتعلق بكونك مسلمًا أو مسيحيًا أو يهوديًا ؛الأمر فقط يتعلق بكونك مصريًا .."إنسان".يسيل بدمه فكرًا متوارثًا بين الأجيال و إن مرت قرون من الزمان "فشمس الفكر لا تغيب " هذا شعارى دائما .
الحضارة ليست حجارةً أو نقشًا أو هرمًا بل كل هذا نتاج لها ،أما المفهوم الصحيح للحضارة "هو العقل الذى فكر في أن يصبح غير المألوف (مألوف) ،هو زراعة الفكرة و حصاد ثمارها .و مما لاشك فيه أنه قد تكون بعض الثمار فاسدة ؛و لكن لماذا خُلقت التجربة ؟! لو لم تُزهر فينا أثرًا يسقيه الزمان فيبقى إلى الأبد، فلنترك طبيعتنا البشرية تحلق متى شاءت و أين شاءت ..
_________________________
وكان من ضمن ذلك الإرث :-
*خطابات الموتى*
تزامن ظهروها بالأسرة السادسة من الحضارة المصرية القديمة ،حيث وصل لنا أقدم خطاب و هو الآن محفوظ بالمتحف المصرى و قد نُثِر على كتان .
و استمر ذلك النوع من الخطابات حتى العصر القبطى.
و المدهش فى أنها باقية حتى الآن و لكن بصورة الحاضر .
تعددت أشكالها و تنوعت أغراضها بين الأمور الدنيوية و أمور الحياة الخالدة "الآخرة"
فجاء فى متن تلك الخطابات أمور كثيرة :-
▪ابن يشارك أباهُ مشاعرهُ عن ألم الفراق و يشكو له أمور الحياة.
وجاء أيضًّا
▪أقارب المتوفى يطلبون منه المساعدة فى خلاف كاد يفرقهم بسبب الميراث .
▪وجاء عتاب بين الأحباب ،وطلب الشفاء من المقدسين و تحقيق الأمنيات ..إلخ
فعقيدة المصرى القديم بيَّنت أن المتوفى سيبقى قلبه ينبض بنفس الشخصية إلى الأبد ،و أن الموت ما هو إلا فرصة جديدة فى حياة الخلود ؛بشرط أن يكون ذا قلب سليم ، فسوف يُكسبُه الموت قوة خارقة للطبيعة ،يصوبها تجاه من يشاء .
قد تكون لمساعدة أحبته أو صوب أعدائه لينتقم منهم.
_________________________
وقد كتبت خطابات الموتى بصيغة الغائب على أملٍ أن تحضُر "تصعد" روح المتوفى و تقرأها .
لذا كانت تقدم لبيت المتوفى (مقبرته)
وكانت إما تنثر على بردية أو تنقش على أوانى الطعام من الفخار أو على قاعدة لتمثال المتوفى مثل قاعدة تمثال "امنحتب بن حابو" و كان الخطاب بغرض الشفاء لأنه شخصية ذو قيمة مؤلهة .
_________________________
ومن أطرف و أقدم الخطابات التى وصلت إلينا حتى الآن ،خطاب سُجل على بردية بالهيراطيقية (محفوظ بمتحف ليدن - هولندا)
تضمنت أسطره "عتاب رقيق من ضابط لزوجته المتوفية " منذ أكثر من ٣سنوات .
فيقول:-
"إلى الروح الباهرة عنخ أرى
أى ضرر فعلته بكِ حتى توقعينى فى مثل هذا الحال المُحزن ...
لماذا ترفعى يدك ضدى رغم أن يدى لم تمد إليكِ ..
فقد تحاشيت أن أفعل أى شئ يحزن قلبك .
فلماذا أنتِ تمنعين قلبى من أن يكون سعيدًا ."
ونبحر بالزمان و نرسوا على شاطئ الحاضر و تحديدًا أمام ضريح الإمام الشافعى بالقاهرة.
حيث يصل لحضرته خطابات يومياً ؛لطلب الشفاء و حل المشاكل و غيرها..... لأنه صاحب المذهب والعدل و القضاء و الكرامات.
وكأن الزمان لم يمر و الفكر لم يمتْ والنفس لازالت أمارة بالسوء .
و لا أدرى هذا هونًا من النفس ام ضعفًا ام جهلًا بمقاليد الكون .
ذات مرة قال لى أحد زوار تلك الأضرحة " هى أماكن تقارب الكعبة فى قدسيتها و نحن فقراء إلى الله" و ذكرنى بجملة نقشت على ضريح الحسين على لسان الرسول (ص) "الحُّسين منى و أنا منه"
ولكنَّ هذا لا يفهمه الكثير .
و لو كان هناك وسطاء بيننا و بين الله ما قال " وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ"..
_______________________
هذا ليس الموروث الوحيد ...
فقد كان يقدم المصري القديم بصحبة ذلك الخطاب القرابين للمتوفى ،وكان يشترط على المتوفى إذا نفذ طلبه سيستمر فى تقديمها له و إن لم يستجب سيحرم من القرابين و هذا يهدد خلوده فى العالم الآخر.
ألا يذكرك عزيزى القارئ بفكرة النذر !!!
(من منا لم يسمع مرأة تقول ندرًا عليا يا...... يوم ما يحصل المراد هعمل و هقدم و و و...)
و أخيرًا نحن نشبه أجدادنا كثيرًا و لكن تذكروا أن الله أعطانا ما لم يعطهم ..فقط تأملوا لتدركوا المعنى !
______________________